ستقبل العراق في ظل الديمقراطية التوافقية
عانت الغالبية العظمى من
شرائح المجتمع العراقي طيلة عقود طويلة من ممارسات سياسية مركزية صارمة
دفعت بها من خلال منهج مدروس الى اللجوء الى ما يمكن أن نصطلح عليه بدوائر
الهوامش.
بمعنى أكثر وضوحا أن سياسة جعل مقدرات الدولة تحت إمرة جماعة
سياسية أو اجتماعية أو دينية ما، سيتجه حتما بالجماعات الأكثر تضررا من هذه
السياسة اللاإنسانية الى البحث عن طرق من شأنها التعويض عما لحق بها من
خسارات مادية أو نفسية، وسواء كانت تلك الخسارات على شكل كبت ديني او حرمان
من المشاركة السياسية والوجاهة الاجتماعية او مجرد فقدان لموارد مالية
بحتة، فان المتضررين من هؤلاء وأولئك سيلجئون لا محالة الى الانضواء تحت
اطر تنظيمية بعينها مثل المافيا الاقتصادية والحزب المعارض واللافتات
الدينية أو المذهبية والتجمعات البدائية كالقبيلة والعشيرة والمحلة ونحوها.
وهكذا فقد شهدت الساحة الاجتماعية تشظيات كثيرة وتعرضت الصورة العامة لوجه
المجتمع العراقي الى انكسارات حادة ماتزال تفعل فعلها التخريبي في تشويه
منظر التعدد الديني والعرقي الذي كان موئلا خصبا في رفد حضارة هذا البلد
العريق بألوان التنوع البهيج ودرجة متقدمة على صعيد العمق والأصالة، فأضحى
الانتماء الى ما تعرف بالهويات الثانوية والإعلان عنها على سبيل الافتخار -
كلما سنحت الفرصة - سمة واضحة تميز الإنسان العراقي عمن سواه، وابتداءً من
حركة تبعيث المجتمع بمعنى قصر انتمائه الفكري على أيدلوجية سياسية حزبية
معروفة مرورا بسحق اغلب فئات المجتمع بطاحونة التجنيد الإجباري وانتهاءً
بصرعات من مثل تطبيق سياسة الحملة الإيمانية تحت ذرائع ازالة الحيف
والمحرومية عن بعض الطوائف الدينية وما رافقها من تداعيات واحداث.
او
نهج الدعم والتشجيع الحكومي على كتابة المشجرات العشائرية والعائلية
والازراء بمن لا يمتلك نموذجا منها الأمر الذي دفع باتجاه المبالغة في
العناية بتلك المشجرات وخلقها من العدم ان لم يكن لها وجود سابق وبالتالي
إجبار شرائح مختلفة من العراقيين على درج اسمائهم رغبة او رهبة في سجلات
مزيفة، كل ذلك العبث او بعضه اساء بشكل قصدي او صدفة الى النسيج
الديموغرافي العام للمجتمع، وافرز مشاعر سلبية لاسيما عند اصحاب الانتماءات
الدنيا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا بل حتى أصحاب -من يعتقد النظام انها
انتماءات عليا – ولكنهم اجبروا رغبة او رهبة الى الدخول في ملاذاتها.
وبالنسبة
لقضية الإشهار الديني بقصد التميز عن الأخر المختلف فقد تبدت صورها جلية
على نحو لا جدال فيه لدى العراقيين الذين قرروا مضطرين او مختارين السفر
خارج البلاد ومن ثم السكن والعمل في إحدى دول الجوار العربي، حيث استوطنوا
على شكل تجمعات سكنية مذهبية خاصة لاسيما المسلمون الشيعة منهم, أما من
استطاعوا ان يقيموا في دولة كإيران قبل او بعد حقبة التسعينات من القرن
الماضي فان التمييز فيما بينهم اخذ منحى دينيا اكثر دقة كالرجوع في اخذ
"الفتيا" الى مجتهد دون اخر، فاذا تعذر التناشز الديني بهذا المستوى استعيض
عنه بنزعة الانتماء المناطقي المفرط هذه المرة، مثل الذي كان يحصل من
تناحرات بين من يعود بتاريخ سكناه الى مدينتي النجف وكربلاء من اهل المسلك
الديني الواحد على سبيل المثال.
وعلى هذا المنوال لم يستطع إلا القليل
النادر من العراقيين التخلص من إسقاطات سياسات النظام السابق التي قضت
بتشتيت المجتمع على سلوكهم العام حتى مع الاقرار الشفوي لدى البعض في ان
العقيدة الدينية لاسيما الاسلامية منها وكذلك حقيقة التعايش المتحضر تنفيان
معا سائر انواع التمايزات الاجتماعية السلبية.
أما بعد تغيير النظام
السياسي الحاكم ابتداء من 9/4 / 2003 فقد اختلفت الصورة السياسية العامة
ظاهريا الى حد بعيد إلا ان ثمة شيئا مهما في باطن الأحداث لم يزل ماثلا وان
اتخذ مسارا للحركة يختلف عما كان عليه سابقا، بمعنى اكثر دقة فان القاسم
المشترك الذي يمكن رصده واقعيا فيما بين النظام الدكتاتوري السابق والنظام
الديمقراطي التوافقي الذي تلاه يتجسد في تشبث ساسة العهد الجديد بسياسات
احلال مبدأ الهويات الفرعية محل الهوية الرئيسة الأم, والعمل على ترسيخ
مفاهيم تلك السياسات قولا وعملا انسياقا مع خط الدولة العام الذي سار
باتجاه التوفيق فيما بين ما سمي بالمكونات الاجتماعية تحت يافطة انتهاج
ديمقراطية توافقية، ليس لها من مفهوم الوفاق والتراضي إلا الشكل الظاهري
فحسب, اذ ان غاية ارضاء جميع الفرقاء لا تتوفر على نحو تام او شبه تام مهما
رضخ البعض منهم الى منطق التنازلات بخاصة اذا ما توفرت لاؤلئك المختلفين
طواقم سياسية تحسن فن الابتزاز وتجيد رفع عقيرتها بمطالب تراها هي مشروعة
ويراها البعض الاخر انها ليست كذلك.
والمطلع على سير الاحداث الماضية
في عراق ما بعد التغيير يستطيع بكل يسر وسهولة أن يجمع ما يحتاجه من ادلة
وبراهين لاثبات ان هذه الديمقراطية المزعومة لم تات بعنوان من عناوين
الوئام والانسجام يقوى على الصمود امام حقيقة تمزق رقعة النسيج الاجتماعي
العراقي الآخذة بالتوسع منذ ان حلّ النظام السياسي الحالي محل القديم،
فاستعراض موجز لهذا التاريخ يقف بنا حتما عند نقاط سوداء اكثرها قتامة فترة
الحرب الاهلية التي بلغت ذروتها في عامي 2005 و2006 وما تخللها من قتل
شنيع للناس البسطاء على اساس الهوية المذهبية وتهجير واختطاف بل حتى توزيع
للغنائم والمناصب الحكومية على نفس الاساس..،في محاولة موغلة بالتعمد
والاصرار على استنساخ نموذج فاشل للحكم ربما كان في اكثره يعود الى النموذج
اللبناني الذي انتج اكثر من حرب اهلية واحدة في تاريخه الممتد من لحظة
اقرار دستور البلاد بعد الحرب العالمية الثانية وليس انتهاء بحرب تيار
المستقبل والتيار المقاوم التي دارت رحاها قبل أسابيع.
كما ان النموذج
الديمقراطي العراقي الجديد وبنسبة ليست بالمتدنية يمثل مجرد اجتهادات قصيرة
النظر للفرقاء السياسيين الذين جمعتهم على اختلاف اذواقهم ومشاربهم مائدة
المحاصصة المشهورة, وللقوانين التي اقرت من قبل مجلس النواب العراقي في
الفترة التي اعقبت انتخابات عام 2005 ثمة وقفة عابرة لكنها تشخص بوضوح خللا
فادحا فيما يتعلق بجدول اولويات سن تلك القوانين التي وضعت في عهدة
البرلمان، وابرز دليل على هذا القول هو التأخر المريب في ابرام قانون مجلس
المحافظات والاقضية والنواحي مع ملاحظة ان الدورة الانتخابية لمجالس
المحافظات قد وصلت الى نهاية المطاف وانها منذ وقت ليس بالقصير مجرد مجالس
تصريف اعمال, الا ان سر التعجب من هذا الموضوع ينكشف تماما عند النظر الى
حقيقة قائمة تقمع أي صوت يعلو على صوت التوافق في مجلس النواب العراقي,
فبسبب هذا التوافق او مايسمى كذلك احيل بين اللجنة القانونية التابعة لمجلس
النواب وبين وضع هذا القانون وامثاله على جداول اعمال المجلس، وبعد ان تمت
هذه الخطوة بجهد جهيد وشرع اعضاء المجلس بالقراءة الاولى للقانون بدات
سلسلة الاخذ والجذب لتنتهي بقراءة فقراءة ثم تصويت واقرار اعقبه نقض ومن ثم
ابرام.., وماتزال الليالي حبلى بمخاضات هذا القانون العجيب.
وليس
للمراقب الا ان يصل الى مزيد من الحقائق التي تدعم فرضية خطأ تبني ذلك
النوع من الديمقراطية القائم على اساس ارضاء جميع الخصوم مهما كان متفائلا
بمستقبل الايام، وتجاهل الخوض في ملفات قضايا المحاصصة او"الكوتا" التي ما
فتأت تُختلق لها المصاديق في الواقع العراقي الراهن, كما هو الحال مع اخر
الاخبار السياسية التي مابرحت تطلعنا بمستجدات موضوع الاقليات العراقية
كالشبك والايزيديين وربما غيرهم عما قريب.
ومهما غض السمع عن سماع
تصريحات بعض المسؤولين التي تسعى الى تغييب مفهوم الامة قصدا او سهوا لصالح
احدى المكونات او الجماعات التي يُفترض ان تكون منضوية تحت ذلك اللواء
العظيم.., ومهما شاهد بام العين مواقف من قبيل ذلك الاعتصام الذي جمع اكثر
من خمسين طبيبا في احدى محافظات البلاد احتجوا فيه على مطالبة بعض العشائر
لهم بدفع الدية او مايعرف محليا بقيمة "الفصل" اذا ما حدث وان توفى مريضهم
-لا قدر الله- اثناء عملية جراحية في القلب او الدماغ، اذ ان امرا كهذا
لابد ان يوجد له تبريرا عند من قسموا البلاد والعباد الى حصص غير متساوية
من حيث الحقوق والواجبات...
في الختام نستطيع ان نخلص من كل ما تقدم
ذكره الى ان الديمقراطية التوافقية بالمعنى العملي المتداول في الساحة
السياسية العراقية منذ اكثر من خمسة اعوام تنطوي على مغالطة واضحة تحيل
المشروع الديمقراطي والذي يعني من جملة ما يعني حكم الشعب نفسه بنفسه الى
شيء اقرب الى احكام الصلح السائدة في بعض الاعراف العشائرية، وهذا الامر من
الخطورة بحيث يمكن ان يشكل عامل نسف وتفجير للعملية الديمقراطية برمتها،
وان ابرز مظهر للعبة التوافقات التي انتهجت طوال الفترة الماضية بدا واضحا
منذ وقت ليس بالقليل من خلال الاجهاز على الروح التي تبعث الرغبة في نفوس
الجماهير للمشاركة الطوعية في الانتخابات المقبلة بالرغم مما تشيعه بعض
الدوائر السياسية والثقافية من افكار مغايرة، اذ ان عددا لايستهان به من
الناخبين ادرك بصورة لا لبس فيها ان حلمه الديمقرطي ديس بعربات الاسترضاء
لطرف او اخر, وان الناخب الذي تحدى الموت من اجل اختياره ممثلا عنه لم يكن
على مستوى تلك التضحيات حتى فيما يتعلق ببعض الخدمات البسيطة، ولن يشفع
للنائب بعد اليوم اعتذاره بانه كان نفسه ضحية لرؤسائه في السلم الحزبي او
السياسي, ولكي يتدارك العراقيون مايمكن تداركه لابد من الرجوع عن اتباع
اسلوب الديمقراطية التوافقية الى ديمقراطية الاكثرية.
عانت الغالبية العظمى من
شرائح المجتمع العراقي طيلة عقود طويلة من ممارسات سياسية مركزية صارمة
دفعت بها من خلال منهج مدروس الى اللجوء الى ما يمكن أن نصطلح عليه بدوائر
الهوامش.
بمعنى أكثر وضوحا أن سياسة جعل مقدرات الدولة تحت إمرة جماعة
سياسية أو اجتماعية أو دينية ما، سيتجه حتما بالجماعات الأكثر تضررا من هذه
السياسة اللاإنسانية الى البحث عن طرق من شأنها التعويض عما لحق بها من
خسارات مادية أو نفسية، وسواء كانت تلك الخسارات على شكل كبت ديني او حرمان
من المشاركة السياسية والوجاهة الاجتماعية او مجرد فقدان لموارد مالية
بحتة، فان المتضررين من هؤلاء وأولئك سيلجئون لا محالة الى الانضواء تحت
اطر تنظيمية بعينها مثل المافيا الاقتصادية والحزب المعارض واللافتات
الدينية أو المذهبية والتجمعات البدائية كالقبيلة والعشيرة والمحلة ونحوها.
وهكذا فقد شهدت الساحة الاجتماعية تشظيات كثيرة وتعرضت الصورة العامة لوجه
المجتمع العراقي الى انكسارات حادة ماتزال تفعل فعلها التخريبي في تشويه
منظر التعدد الديني والعرقي الذي كان موئلا خصبا في رفد حضارة هذا البلد
العريق بألوان التنوع البهيج ودرجة متقدمة على صعيد العمق والأصالة، فأضحى
الانتماء الى ما تعرف بالهويات الثانوية والإعلان عنها على سبيل الافتخار -
كلما سنحت الفرصة - سمة واضحة تميز الإنسان العراقي عمن سواه، وابتداءً من
حركة تبعيث المجتمع بمعنى قصر انتمائه الفكري على أيدلوجية سياسية حزبية
معروفة مرورا بسحق اغلب فئات المجتمع بطاحونة التجنيد الإجباري وانتهاءً
بصرعات من مثل تطبيق سياسة الحملة الإيمانية تحت ذرائع ازالة الحيف
والمحرومية عن بعض الطوائف الدينية وما رافقها من تداعيات واحداث.
او
نهج الدعم والتشجيع الحكومي على كتابة المشجرات العشائرية والعائلية
والازراء بمن لا يمتلك نموذجا منها الأمر الذي دفع باتجاه المبالغة في
العناية بتلك المشجرات وخلقها من العدم ان لم يكن لها وجود سابق وبالتالي
إجبار شرائح مختلفة من العراقيين على درج اسمائهم رغبة او رهبة في سجلات
مزيفة، كل ذلك العبث او بعضه اساء بشكل قصدي او صدفة الى النسيج
الديموغرافي العام للمجتمع، وافرز مشاعر سلبية لاسيما عند اصحاب الانتماءات
الدنيا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا بل حتى أصحاب -من يعتقد النظام انها
انتماءات عليا – ولكنهم اجبروا رغبة او رهبة الى الدخول في ملاذاتها.
وبالنسبة
لقضية الإشهار الديني بقصد التميز عن الأخر المختلف فقد تبدت صورها جلية
على نحو لا جدال فيه لدى العراقيين الذين قرروا مضطرين او مختارين السفر
خارج البلاد ومن ثم السكن والعمل في إحدى دول الجوار العربي، حيث استوطنوا
على شكل تجمعات سكنية مذهبية خاصة لاسيما المسلمون الشيعة منهم, أما من
استطاعوا ان يقيموا في دولة كإيران قبل او بعد حقبة التسعينات من القرن
الماضي فان التمييز فيما بينهم اخذ منحى دينيا اكثر دقة كالرجوع في اخذ
"الفتيا" الى مجتهد دون اخر، فاذا تعذر التناشز الديني بهذا المستوى استعيض
عنه بنزعة الانتماء المناطقي المفرط هذه المرة، مثل الذي كان يحصل من
تناحرات بين من يعود بتاريخ سكناه الى مدينتي النجف وكربلاء من اهل المسلك
الديني الواحد على سبيل المثال.
وعلى هذا المنوال لم يستطع إلا القليل
النادر من العراقيين التخلص من إسقاطات سياسات النظام السابق التي قضت
بتشتيت المجتمع على سلوكهم العام حتى مع الاقرار الشفوي لدى البعض في ان
العقيدة الدينية لاسيما الاسلامية منها وكذلك حقيقة التعايش المتحضر تنفيان
معا سائر انواع التمايزات الاجتماعية السلبية.
أما بعد تغيير النظام
السياسي الحاكم ابتداء من 9/4 / 2003 فقد اختلفت الصورة السياسية العامة
ظاهريا الى حد بعيد إلا ان ثمة شيئا مهما في باطن الأحداث لم يزل ماثلا وان
اتخذ مسارا للحركة يختلف عما كان عليه سابقا، بمعنى اكثر دقة فان القاسم
المشترك الذي يمكن رصده واقعيا فيما بين النظام الدكتاتوري السابق والنظام
الديمقراطي التوافقي الذي تلاه يتجسد في تشبث ساسة العهد الجديد بسياسات
احلال مبدأ الهويات الفرعية محل الهوية الرئيسة الأم, والعمل على ترسيخ
مفاهيم تلك السياسات قولا وعملا انسياقا مع خط الدولة العام الذي سار
باتجاه التوفيق فيما بين ما سمي بالمكونات الاجتماعية تحت يافطة انتهاج
ديمقراطية توافقية، ليس لها من مفهوم الوفاق والتراضي إلا الشكل الظاهري
فحسب, اذ ان غاية ارضاء جميع الفرقاء لا تتوفر على نحو تام او شبه تام مهما
رضخ البعض منهم الى منطق التنازلات بخاصة اذا ما توفرت لاؤلئك المختلفين
طواقم سياسية تحسن فن الابتزاز وتجيد رفع عقيرتها بمطالب تراها هي مشروعة
ويراها البعض الاخر انها ليست كذلك.
والمطلع على سير الاحداث الماضية
في عراق ما بعد التغيير يستطيع بكل يسر وسهولة أن يجمع ما يحتاجه من ادلة
وبراهين لاثبات ان هذه الديمقراطية المزعومة لم تات بعنوان من عناوين
الوئام والانسجام يقوى على الصمود امام حقيقة تمزق رقعة النسيج الاجتماعي
العراقي الآخذة بالتوسع منذ ان حلّ النظام السياسي الحالي محل القديم،
فاستعراض موجز لهذا التاريخ يقف بنا حتما عند نقاط سوداء اكثرها قتامة فترة
الحرب الاهلية التي بلغت ذروتها في عامي 2005 و2006 وما تخللها من قتل
شنيع للناس البسطاء على اساس الهوية المذهبية وتهجير واختطاف بل حتى توزيع
للغنائم والمناصب الحكومية على نفس الاساس..،في محاولة موغلة بالتعمد
والاصرار على استنساخ نموذج فاشل للحكم ربما كان في اكثره يعود الى النموذج
اللبناني الذي انتج اكثر من حرب اهلية واحدة في تاريخه الممتد من لحظة
اقرار دستور البلاد بعد الحرب العالمية الثانية وليس انتهاء بحرب تيار
المستقبل والتيار المقاوم التي دارت رحاها قبل أسابيع.
كما ان النموذج
الديمقراطي العراقي الجديد وبنسبة ليست بالمتدنية يمثل مجرد اجتهادات قصيرة
النظر للفرقاء السياسيين الذين جمعتهم على اختلاف اذواقهم ومشاربهم مائدة
المحاصصة المشهورة, وللقوانين التي اقرت من قبل مجلس النواب العراقي في
الفترة التي اعقبت انتخابات عام 2005 ثمة وقفة عابرة لكنها تشخص بوضوح خللا
فادحا فيما يتعلق بجدول اولويات سن تلك القوانين التي وضعت في عهدة
البرلمان، وابرز دليل على هذا القول هو التأخر المريب في ابرام قانون مجلس
المحافظات والاقضية والنواحي مع ملاحظة ان الدورة الانتخابية لمجالس
المحافظات قد وصلت الى نهاية المطاف وانها منذ وقت ليس بالقصير مجرد مجالس
تصريف اعمال, الا ان سر التعجب من هذا الموضوع ينكشف تماما عند النظر الى
حقيقة قائمة تقمع أي صوت يعلو على صوت التوافق في مجلس النواب العراقي,
فبسبب هذا التوافق او مايسمى كذلك احيل بين اللجنة القانونية التابعة لمجلس
النواب وبين وضع هذا القانون وامثاله على جداول اعمال المجلس، وبعد ان تمت
هذه الخطوة بجهد جهيد وشرع اعضاء المجلس بالقراءة الاولى للقانون بدات
سلسلة الاخذ والجذب لتنتهي بقراءة فقراءة ثم تصويت واقرار اعقبه نقض ومن ثم
ابرام.., وماتزال الليالي حبلى بمخاضات هذا القانون العجيب.
وليس
للمراقب الا ان يصل الى مزيد من الحقائق التي تدعم فرضية خطأ تبني ذلك
النوع من الديمقراطية القائم على اساس ارضاء جميع الخصوم مهما كان متفائلا
بمستقبل الايام، وتجاهل الخوض في ملفات قضايا المحاصصة او"الكوتا" التي ما
فتأت تُختلق لها المصاديق في الواقع العراقي الراهن, كما هو الحال مع اخر
الاخبار السياسية التي مابرحت تطلعنا بمستجدات موضوع الاقليات العراقية
كالشبك والايزيديين وربما غيرهم عما قريب.
ومهما غض السمع عن سماع
تصريحات بعض المسؤولين التي تسعى الى تغييب مفهوم الامة قصدا او سهوا لصالح
احدى المكونات او الجماعات التي يُفترض ان تكون منضوية تحت ذلك اللواء
العظيم.., ومهما شاهد بام العين مواقف من قبيل ذلك الاعتصام الذي جمع اكثر
من خمسين طبيبا في احدى محافظات البلاد احتجوا فيه على مطالبة بعض العشائر
لهم بدفع الدية او مايعرف محليا بقيمة "الفصل" اذا ما حدث وان توفى مريضهم
-لا قدر الله- اثناء عملية جراحية في القلب او الدماغ، اذ ان امرا كهذا
لابد ان يوجد له تبريرا عند من قسموا البلاد والعباد الى حصص غير متساوية
من حيث الحقوق والواجبات...
في الختام نستطيع ان نخلص من كل ما تقدم
ذكره الى ان الديمقراطية التوافقية بالمعنى العملي المتداول في الساحة
السياسية العراقية منذ اكثر من خمسة اعوام تنطوي على مغالطة واضحة تحيل
المشروع الديمقراطي والذي يعني من جملة ما يعني حكم الشعب نفسه بنفسه الى
شيء اقرب الى احكام الصلح السائدة في بعض الاعراف العشائرية، وهذا الامر من
الخطورة بحيث يمكن ان يشكل عامل نسف وتفجير للعملية الديمقراطية برمتها،
وان ابرز مظهر للعبة التوافقات التي انتهجت طوال الفترة الماضية بدا واضحا
منذ وقت ليس بالقليل من خلال الاجهاز على الروح التي تبعث الرغبة في نفوس
الجماهير للمشاركة الطوعية في الانتخابات المقبلة بالرغم مما تشيعه بعض
الدوائر السياسية والثقافية من افكار مغايرة، اذ ان عددا لايستهان به من
الناخبين ادرك بصورة لا لبس فيها ان حلمه الديمقرطي ديس بعربات الاسترضاء
لطرف او اخر, وان الناخب الذي تحدى الموت من اجل اختياره ممثلا عنه لم يكن
على مستوى تلك التضحيات حتى فيما يتعلق ببعض الخدمات البسيطة، ولن يشفع
للنائب بعد اليوم اعتذاره بانه كان نفسه ضحية لرؤسائه في السلم الحزبي او
السياسي, ولكي يتدارك العراقيون مايمكن تداركه لابد من الرجوع عن اتباع
اسلوب الديمقراطية التوافقية الى ديمقراطية الاكثرية.